-A +A
حسن النعمي
عندما كنا صغارا كنا نؤمن على دعاء الإمام دون أن ندري عن مقاصده شيئا، كبرنا وكبرت مصائبنا، وأدركنا أن ليس كل دعاء بريئا، وأن منه ما يقود الناس إلى وعي زائف.
مناسبة هذه المقدمة ما نلاحظه من نشاط بعض أئمة وخطباء المساجد من حين لآخر في التركيز على الدعاء للمجاهدين بالنصرة والغلبة على عدوهم. ويحتار المسلم المدقق فيما يؤمن عليه، وهو يرى ما تشنه الجماعات التي تحارب باسم الإسلام، سواء داعش أو جبهة النصرة أو غيرهما، من فظائع ومجازر بين المسلمين، فأي جهاد يكون هذا؟ وأي مجاهدين يتوجب علينا أن ندعو لهم؟
وقد يقول قائل إن هذا الدعاء مطلق غير مقيد أو مخصوص، غير أن الوقائع من حولنا لا يجهلها أحد، ولا احتمال أن الدعاء بعيد عما يجري. عندما تختلط الأوراق وتعم الفوضى ويستغل البعض الدين لأهداف سياسية، فليس لدينا جهاد تتوجب نصرته، ولا مجاهدون يتوجب دعمهم والدعاء لهم. يجب على الأئمة والخطباء وهم من أكثر من يؤثر في العامة أن يبينوا للناس هذا الملتبس في أمر الجهاد حتى لا تستنزف عاطفة الناس الدينية في غير ما هو جدير بها. العامة تحتاج التبصير أكثر من التهييج.
السؤال: هل يعي بعض خطبائنا هذا المأزق؟ إن لم يعوا ذلك فهم معزولون عن الواقع، تحركهم العاطفة الدينية، وليس العقل المؤتمن على الدين. وإن كانوا يعون هذا الخلط السياسي ويتماهون معه فهنا الخطر؛ لأنهم يضللون العوام، ويعززون بطرق غير مباشرة روح الانفصال بين المجتمع وبعض فئاته التي تهرول للالتحاق بالجماعات الإرهابية التي لا ترى من الحياة إلا التغيير بالدم والنار، وذلك ليس من سنة الرسول ــ صلى الله عليه وسلم، وفتح مكة خير شاهد على ذلك عندما فتحها وأمن أهلها، ولم يستغل أنصاره لإرهاب الناس وإذلالهم. فأين هؤلاء من سنة المصطفى.
لو افترضنا حسن النية في بعض الأئمة أو الخطباء، فإن ذلك ليس على إطلاقه؛ لأن هناك من قد يستغل منبره لهواه، أو لأغراضه السياسية.
استشهد بالدعاء هنا لأنه خطاب مفتوح تحصل الإضافة فيه والتوسع على المأثور، وخصوصا عندما يجنح الإمام أو الخطيب لملامسة الواقع. إذا كان هذا الواقع مما ينفع الناس، ويركز على العام دون الخاص، فيمكن أن يكون الدعاء بناء. أما إذا كان مخصصا، مشتبكا مع السياسية ومستجداتها، فهنا يؤجج الإمام تناقضات المأمومين السياسية، ويخرجهم من شرط خشوعهم للانشغال بأحداث الساعة.
وكلنا نذكر أحد خطباء المساجد في الرياض الذي ندد بما حدث في مصر من على منبر الجمعة مستغلا سلطته الدينية، فما كان إلا أن اعترضه أحد المعارضين لتوجهه السياسي. فأحدث الدعاء لغطا هرب منه الإمام بالتكبير للصلاة. ونتذكر أيضا موقف أحد الخطباء في الخليج عندما أحدث أزمة بين بلدين حين ندد بموقف إحدى الدولتين تجاه ما يحدث في مصر. الأمر واضح هو استغلال مركزية المسجد في حياة المسلم الذي يذهب للصلاة في توق لمناجاة الله عبر أداء فريضته في وقار وخشوع، فارا من الدنيا إلى الله بقلب يفترض أن يكون خاليا من الدنيا وأوجاعها، ألم يقل الرسول الكريم (أرحنا بها يا بلال)، من هنا فاستحضار السياسة في الصلاة هو نقض لمفهوم الراحة التي ينشدها المسلم. لماذا يستعرض بعض الدعاة والأئمة والخطباء مواقفهم السياسية من على منابر المساجد، وفي محاريبها وهي بيوت الله في الأرض، وهي أماكن لا يجب أن نزف إليها الباطل من كل مكان؟!
قد يحتج البعض بأن للمساجد أدوارا سياسية، وهذا حق لا جدال فيه، لكن ذلك كان في بداية الدعوة وبعض زمن الخلافة الراشدة يوم كانت السياسة في خدمة الدين، وليس العكس. أما بعد ذلك وحتى يومنا هذا فقد وضعنا الدين في سلة السياسة؛ فحملته السياسة إلى حيث تشاء، حيث بررت أفعالها باسم الدين، وسوغت أخطاءها باسم الدين، وشنت حروبها باسم الدين!! والدين لم يفوض أحدا للقتل باسمه إلا ما كان حدا من حدود الله. ألم يقل ــ سبحانه وتعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). هذه نفس واحدة سلامتها تعدل سلامة البشرية. هذه نفس واحدة، وليس شرطا أن تكون مسلمة، بل شرطها أن تكون مسالمة ومتسامحة غير معتدية لتستحق الحياة. الله أكبر كيف قزمنا قيم الدين العظيمة حتى أفقدناه جوهره وإنسانيته.
الأحداث من حولنا جسيمة، والأخطار لا تستأذن أحدا، ودرعنا الحقيقي هو الاهتمام بشأننا الداخلي، وترشيد خطابنا الديني والاجتماعي والسياسي. لا بد من لحظة صدق مع النفس، فإذا ضاعت مكتسبات الوطن، فسيخسر الجميع للأسف!.
halnemi@gmail.com

للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 738303 زين تبدأ بالرمز 109 مسافة ثم الرسالة